فهم النصوص القانونية
عد فهم النص بشكل صحيح هو المخرج النهائي للعقلية القانونية وهو الذي يحسم النزاع في الحيثيات القضائية أثناء المرافعة والمداولة والنطق بالحكم، وعندها يكون الحكم متسقا مع القواعد والأصول القضائية، وعكس ذلك حين يكون الفهم غير دقيق، أو فهما أوليا لظاهر النص دون ربطه بالنصوص الأخرى، وعملية دراسة النص واستيعابه هي من الفقه القانوني الذي يتغياه دارس القانون وفق تراكم المعلومات القانونية لديه، وكلما كانت المعلومات والخبرات أكثر كان الفهم أعمق وأشمل، ولذلك تخضع عملية تفسير النص إلى القبول الذاتي للمتلقي، حيث يأتي ما يسمى المعنى الأولي للوهلة الأولى، وهذه تأتي نتيجة التراكمات اللغوية والمنطقية والتاريخية، وبالتالي يتم حسم المعنى في عقل متلقي النص من خلال القواعد المعرفية التي بناها المتلقي من خلال معلوماته السابقة، ولكن ليس كل دارسي القانون لديهم المهارة الفنية لتفسير النصوص، ولذلك تم وضع ضوابط ترتبط بمعرفة منشأ النص وارتباطه بالظروف التاريخية لنشأته، ثم ربط النص القانوني بالنصوص القانونية الواردة في القانون ذاته، حيث تكون المعاني متجانسة، وأيضا متفاعلة فيما بينها بالتوافق المنطقي “جمع النصوص”، ثم ربط كل هذه التفاعلات بمعاني النصوص القانونية الأخرى، وفي حالة وجود تنافر بين معنى النص الذي يراد تفسيره مع نصوص أخرى تأتي عملية التوفيق، حيث يتم ضبط كل نص بمعناه حتى لا يذهب المعنى إلى محيط النص الآخر، وفي حال عدم القدرة على ضبط المعنيين نكون أمام حالة قانونية تتطلب تدخل الفقه والقضاء الدستوري كي يتم إلغاء النص الأدنى إذا كان معارضا للنص الأقوى، وفي حالة اتحاد درجة القوة يلغى النص الذي يعد مخالفا للقواعد الكلية والمعاني الأساسية للقانون، وإذا لم توجد مخالفة للقواعد، يتم الاجتهاد حسب حاجة البلد إلى أي النصين القانونيين، ومن خلال هذه التفاعلات وإدامة النظر، يستخرج الفقيه القانوني القواعد التفسيرية، وهي قواعد تستنبط من معاني النصوص، فهي خلفية لمعاني النصوص القانونية تظهر آثارها دون أن يعبر عنها بتعابير محددة، وهذه القواعد تقوى وتصبح هي القواعد العامة للقانون، مثل: “لا قياس في الجنائي” فلم ترد مادة بذلك، ولكن خلفيات النصوص القانونية الجنائية وتطبيقاتها أنشأتا هذه القاعدة، وأصبحت مؤثرة في تحديد المعاني، ويتم استصحابها كثيرا عند إيراد التجريم على حالة جديدة، ومثله في الفقه الإسلامي “لا ينسب لساكت قول” فهي قاعدة تفسيرية نشأت من معاني النصوص وآثارها، وهكذا يتشكل الفقه القانوني، ويتم بناء الملكة القانونية، خاصة مع وجود طفرة في التعليم القانوني بتخصصاته كافة، وهو أمر ملحوظ خاصة في منطقة الخليج العربي، ولكن ينبغي أن يصاحب ذلك تقعيد وتعليم متين كي يتم تعلم القانون من خلال أصوله مع بناء الفكر والملكة، وكم يحز في النفس عندما تشاهد قانونيين أو قضاة لا يدركون مثل هذه المواضيع، فتعرض الواقعات عليهم، ويتم التخبط في التكييف والإسناد، ثم يخرج حكم بعيد عن كل معاني العدالة، وبالمثال يتضح المقال فلا يخفى عليكم أن كثيرا من أنظمة الخدمة المدنية ولوائح التعليم العالي في مواضع كثيرة تبدأ بكلمة يجوز للجهة، وفي الحقيقة ينبغي تحجيم هذه الكلمة وضبط الحالات القانونية وفق مراكزها، حيث تكون مساحة السلطة التقديرية للمديرين في نطاق معتدل، فلو أن أحد أساتذة الجامعات تقدم بطلب مكافأة حاسب آلي والنظام أو القانون ينطبق عليه، إلا أن مدير الجامعة وفق صلاحيته استخدم الجوازية الاعتباطية، ورفض منحه مكافأة مع أن زملاءه في تخصصه نفسه وفي عمله نفسه في جامعة أخرى يتسلمونها، ومع الأسف أنه قد يتقدم لقاضي المحكمة الإدارية، ويكون هذا القاضي ظاهري النصوص، ولا يعرف القواعد العامة للقانون ولا مستوى تفاعلات النصوص، فيحكم برفض الدعوى، هنا سيكون أمام الأستاذ الجامعي إما طلب الانتقال للجامعة الأخرى، وإما الصبر ولسان حاله، نحن لسنا في بلد واحد يحكمنا قانون واحد؛ بل قانون لكل منطقة أو جامعة وذلك تحت ظلال الجوازية القانونية التي يتمسك بها مديرو الجهات الإدارية، وهذا في حد ذاته ظلم، وهو بعيد عن معاني العدل، قد يقول قائل ما المعالجة الصحيحة لهذا الموضوع في ظل وجود كلمة يجوز للجهة؟ والجواب عن ذلك، المادة الجوازية مقيدة بالقواعد العامة التي تتفاعل مع النصوص، مثل: قاعدة المساواة والعدل واستقرار المراكز القانونية خاصة إذا كانت ميزانيات هذه الجامعات كلها مستمدة من كيان الدولة، فلا يوجد استقلال مالي للجامعات إلا وفق الأمور التنظيمية لصرف المستحقات والمشاريع والعدد، ونحو ذلك، وبالتالي فجهات الصرف تكاد تكون متطابقة، ومعها تتطابق المراكز القانونية، خاصة أن الدساتير والنظام الأساسي للحكم ينص على العدل والمساواة بين المواطنين، وأن هذا المعنى مستصحب في عناصره بين كل القوانين واللوائح وتطبيقاته، والنظر في القواعد المفسرة للقواعد التشريعية هو إحدى الوسائل المؤدية إلى تصور سليم لروح القانون وغاياته وأهدافه، ولذلك من يستصحب أثناء فهم النص هذه القواعد، ويوازنها مع تفاعل النص، يخرج بنتائج مريحة للضمير الوجداني الذي لا بد أن يكون القاضي لديه القناعة الوجدانية أثناء نظره في النصوص بمجموع معانيها، والغريب أن كثيرا من هؤلاء درس الفقه الإسلامي، ويعرف خطورة البعد عن هذه القواعد؛ لأن نتائجها خطيرة، وتؤدي إلى الظلم، فالذي يطالع الحديث الصحيح: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” يتبادر له كمعنى أولي أن الكفر هنا هو الكفر المخرج من الملة، حيث لو تقاتلت مع مسلم ولو لم تقتله فتكون بذلك كافرا، ولا شك أن هذا التصور فاسد؛ لأن هذا النص النبوي مرتبط بنصوص نبوية أخرى، وآيات قرآنية تنص معانيها على أن الله لا يغفر لمن يشرك به ويغفر ما دون ذلك، وأن المسلم يدخل الجنة إذا كانت معه شهادة الإسلام، فالفقهاء عالجوا هذه النصوص بمبدأ الجمع بين معاني النصوص، وهو الذي يحصل في القانون في ربط معانيه وتفاعلاته مع بعضها، كي يخرج حكمٌ يتفق مع أصول المنطق السليم، ويتفق مع القواعد الأساسية للقانون والقضاء وكله تحت مظلة فهم النصوص القانونية فهما صحيحا يتطابق مع الغرض الذي من أجله نشأ القانون.
|
اترك تعليقاً